أهمية الوقت- للشيخ جابر عبد الحميد
من يَسَّر
الله له أكثر وأقل لكنَّ الجميع كان مقبلا على الله جل وعلا طيلة نهاره حافظا
لبصره حافظا لفرجه حافظا للسانه حافظا لجوارحه مُسديا النصح للمسلمين، فإذا جاء
وقت الإفطار أفطر عابدا لله خاضعا ثم صلَّى المغرب في جماعة، وعاد لِيَتَقَوَّى
ببعض الطعام على ذكر الواحد المعبود جل وعلا ثم انطلق إلى بيت الله عز وجل سامعا
لكتاب الله أو تاليا راكعا ساجدا أواهاً أواباً بكاءً داعيا: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ
الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾[السجدة/16] تحقق فيهم صفات عباد الرحمن والتي منها: ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ
سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾[الفرقان/64] ثم استراح بعض الراحة ليقوم ناهضا من نومه
مستغفرا بالأسحار داعيا أواهاً بكاءً منيبا مُتَسَحِّرا مُقْتَدِيا برسول الله
محمد عليه الصلاة والسلام وهكذا كان ليله وكان نهاره فهذه ثمرة عظيمة جدا من
الثمرات حِفْظُ الوقت وكما قال أحد الصالحين:( إضاعةُ الوقْتِ من المقْتِ) من
الغضب على العبد أن يُضيِّعَ أوقاته فهي رأس ماله وهي عُمُره وهي وعاء الأعمال. الأوقات
وعاء الأعمال فما فاز من فاز إلا بالاستفادة من وقته ولا خَسِر من خسر يوم القيامة
إلا بضياع عمره قال ابن مسعود رضي الله عنه: ( ما نَدِمْتُ على شيءٍ ندمي على يوم
غَرَبَتْ فيه شمسُه نَقَصَ فيه أجلي ولم يَزْدَدْ فيه عملي ) وهناك رواية مرفوعة
إلى النبي صلى الله عليه وسلم والأصح أنها موقوفة على بعض الصحابة: ( ما من يومٍ
يَنْشَقُّ فَجْرُه ولم أزْدد فيه علما يُقَرِّبُني من ربي فلا بورك لي في طلوع شمس
ذلك اليوم ) الأعمار رأس مال المسلم والمسلمة، ألا تَرى إلى حسرات الكافرين والفَجَرة
عند سكرة الموت علامَ يَتحسَّرون؟ إنهم لا يَتَحسَّرون على ضياع أموالهم ولا على
فِراق أولادهم إنَّ كُلَّ تَحسُّرِهم على ساعة مضت ولم يذكروا اسم الله تعالى فيها ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا
تَرَكْتُ كَلَّا ﴾[المؤمنون/-10099]
إنه يَتحسَّر على فوات الأعمال الصالحة يَتحسَّر على فوات تسبيحة والله الذي لا إله
غيره، ما تُعْرف قيمة التسبيحة إلا لمن حُرِم نعمة الوقت قال سبحانه ردا على أهل
النار:﴿ وَهُمْ
يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ ﴾[فاطر/37] ماذا قال جل وعلا ردا عليهم:﴿ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ
فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾[فاطر/37] قال سبحانه قاطعا الحجة عليهم:﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ﴾[فاطر/37] ألم
نُعطكم من الأعمار ما يمكِّنكم من التذكر والاعتبار والمسارعة إلى عمل الصالحات!
فأين ضيعتم الآجال والأعمار!:﴿ وَلَوْ
تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا
أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾[السجدة/12] اليوم يتيقن ويتمنى العودة:﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى
النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ ﴾[الأنعام/27] يتمنى العودة إلى الدنيا ليُحصِّل الصالحات ولكن هيهات قال
النبي محمد اللهم صلي عليه: (( بادروا بالأعمال فتنا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا أو
غنى مُطْغِيا أو هَرَما مُفَنِّدا[ أي يصيب العبد بالتخريف] أو مرضا مفسدا أو موتا
مُجْهِزًا أو الدجال فَشَرُّ غائب يُنتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمَرّ )) بادروا
بالأعمال سابقوا سارعوا:﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ
الْمُتَنَافِسُونَ ﴾[المطففين/26] ثمرة حفظ الوقت فالوقت لا يعود والوقت سريع
الانقضاء كما كان العرب يعظ بعضهم بعضا يقولون: الوحى الوحى البدار البدار السرعة
السرعة قبل فوات الأوان.
أيها الأحبة
في الله نستضيف الليلة صاحب هذا الكتاب المبارك:( صَلاحُ الأُمَّة في عُلُوِّ الْهِمَّة)
للشيخ سيد حسين العفاني شفاه الله وعافاه وحفظه وبارك فيه وفي علمه، فقد وفَّر
علينا البحث وجَمَعَ من أقوال العلماء، علماء السلوك، ما يَشْفِي الغَلِيل في ستة
بنود أو نقاط، أَقْرَأُها على مسامع حضراتكم، فهيا بنا يا عباد الله هيا بنا إماء
الله هيا بنا مع هذه الكلمات النَّيِّرات للسادة العلماء أصحاب السلوك وكيف حافظوا
على أوقاتهم:
النقطة الأولى: الناكصون على أعقابهم
النقطة الثانية: إياك وقُطَّاع الطريق
النقطة الثالثة: الخُلْطَةُ مَضْيَعَةٌ للوقت
النقطة الرابعة: الضابط في الخُلْطَةُ
النقطة السادسة: لَفْتَةُ الْكَبِدْ
النقطة السابعة: لا عمل إلا في الشباب
النقطة الثامنة: جدول للمحاسبة
ولكننا نبدأ
هذا الكلام بقول ابن القيم رحمه الله: ( العبدُ من حين استقرت قدمه في هذا الدار
فهو مسافر فيها إلى ربه ) هذا الكلام سهلٌ لا يحتاج إلى تعليق ولا تفسير. انتبه،
اعطني قلبك وَسَلِ الله أنْ يُفَهِّمَك ( العبد من حين استقرَّت قدمه في هذا الدار
فهو مسافر فيها إلى ربه ومدة سفره هي عمره التي كُتب له فالعمر هو مدة سفر الإنسان
في هذه الدار إلى ربه ثم قد جُعِلَت الأيام والليالي مراحل لسفره فكل يوم وليلة
مرحلة من المراحل فلا يزال يَطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر ) كلام واضح،
الليل مُكلَّفٌ أن يُرْسِلك إلى النهار، والنهار مُكلَّفٌ أنْ يَبْعَثَك إلى الليل
حتى تأتي عليك ليلة لا نهار فيها إلا وأنت بين يدي أحكم الحاكمين، أو يأتي عليك
نهار لا ليل له إلا وأنت عارٍ قد فارقت الدنيا، فقيرٌ إلى ما قَدَّمْت، غَنِيّ عما
تركْت، قال سبحانه:﴿ وَالْعَصْرِ
(1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾[العصر/1-2] قال
ابن عباس رضي الله عنهما: العصر هو الزمن، قال الرازي: أَقْسَمَ الله عز وجل بالعصر
لما فيه من الأعاجيب ولأن العمر لا يُقوَّم بشيء نفاسةً وغلاءً. أحد الصالحين
يقول: ( الزمن أغلى من الذهب ) هذا بمقياس أهل الدنيا ولكن رَدَّ عليه أحد
الصالحين فقال: لا، بل الزمن هو الحياة ليس أغلى من الذهب. والزمان من جملة أصول
النِّعَم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألتُ رسول الله صلى الله عليه
وسلم أَيُّ الأعمال أَحَبّ إلى الله قال: الصلاة على وقتها )رواه البخاري ومسلم
وغيرهما رحمها الله. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: نِعْمَتانِ مَغْبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) يعني
الإنسان يخسر كثيرا حينما لا يؤدي شكر نعمة الفراغ ونعمة الصحة، فالزمن نعمة جُلَّى
ومنحة كبرى لا يدريها ويستفيد منها كل الفائدة إلا الموَفَّقون الأفذاذ كما أشار
إلى ذلك لفظ الحديث ( مَغْبونٌ فيهما كثير من الناس ) فأفاد أن المستفيدين من ذلك
قِلَّة وأن الكثير مُفرِّط خاسر مَغْبون قالت حفصة بنت سيرين رحمها الله: ( يا
معشر الشباب اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب ) رحمة الله على حفصة. حَفِظْتُ لها جملة وعَلِمْتُ من عبادتها عبادة أثَّرت فيَّ
كثيرا، وأنا شابٌ صغير، لما عَلِمْتُ أنها كانت تقوم الليلة بعشرة أجزاء رحمها
الله حفصة بنت سيرين وهي الغيورة على نقابها لما قالوا لها: يا حفصة تُدرِّسين
العلم وأنت امرأة كبيرة وتلبسين النقاب! علام النقاب! والله قد رفع الإثم والحرج
عن المرأة إذا كَبُرَت إذا أكلها الشيب وأنت امرأة غير مرغوب في النكاح منك، امرأة
كبيرة والله رفع الحرج عن المرأة الكبيرة إذا رَفَعت النقاب:﴿ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ
اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ
ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾[النور/60] فماذا قالت حفصة قالت: وماذا قال الله بعدها؟ قالوا:﴿ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ ﴾[النور/60] قالت: وأنا أستعفف؛ فرفضت كشف وجهها وهي امرأة كبيرة طاعنة في
السن، فسبحان الله تقوم الليلة بعشرة أجزاء فهل نحن نِصْفها! ما حصَّلنا نصف امرأة،
أعزكم الله ما حصَّلنا نصف امرأة هل نحن نصف حفصة! الله يعيننا، أسأل الله أن
يعيننا. ( يا معشر الشباب اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب ) قال قتادة: اعلموا
أن طُولَ الْعُمُرِ حُجَّة، فنعوذ بالله أن نُعيَّر بطول العمر قال تعالى:﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا
يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾[فاطر/37] أخي:
ما
مضى فات والمؤمَّل غَيْب ولك
الساعة التي أنت فيها
استمع إلى هذه
الجملة الآتية فيالها من أثر وموقع في القلوب، قال يحيى بن معاذ رحمه الله: ( الفَوْتُ
أشدُّ من الموْت ) ما معنى الفَوْت:ضياع الوقت أشد من الموت، لِمَ يا إمام؟ قال:
لأن الفَوْتَ انقطاع عن الحق والموت انقطاع عن الخلق، فالموت يَقْطَعُك عن الدنيا
وأهلها، أما ضياع الوقت فإنه يَقْطَعُك عن الله وعن الدار الآخرة. يا هذا، الأيام
ثلاثة: أمس قد مضى بما فيه، وغَدا لعلَّك لا تُدْرِكه، وإنما هو يومك هذا، فاجتهد
فيه، فلله دَرُّ من تَنبَّه لِنَفْسِه وتَزَوَّد لِرَمْسه، واستدرك ما مضى من أَمْسِه
قبل طول حَبْسِه. قال رجل لداود: أوصني، فَدَمَعَت عيناه، وقال: يا أخي، إنما
الليل والنهار مراحل يَنْزِلها الناس مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم
فإن استطعت أن تُقدِّم كل يومٍ زاداً لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن
قريب والأمر أعْجَلُ من ذلك، فَتَزَوَّد لنفسك، واقْضِ ما أنت قاض فكأنك بالأمر قد
بَغَتك إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدا أشد تقصيرا منِّي ثم قام وتركه. وهذا
الكلام يُذَكِّرنا بعلي رضي الله عنه لما كان يقوم طيلة ليله فإذا دخل عليه السَّحَر
جلس يستغفر ويبكي طويلا ويَشُدُّ على لحيته ويقول كلمته المحفوظة: آهٍ من قلة
الزاد وطول السفر ووحشة الطريق. لما عَلِمَ الصالحون قِصَر العُمُر وَحَثَّهم حادي﴿ وسارعوا ﴾ طووا مراحل الليل مع النهار انتهاباً للأوقات.
قال ابن القيم
رحمه الله: إذا أراد الله بالعبد خيرا أعانه بالوقت وجعل وقته مساعدا له، وإذا
أراد به شرا جعل وقته عليه وناكده وقته، فكلما أراد التأهب للمسير لم يساعده
الوقت. نسأل الله أن يُطَوِّعَ لنا أوقاتنا آمين. ( فمن غَفَل عن نَفَسِه ) نحن
نتاجر مع الله يا إخواني في الأنفاس فيمكنك في كل نَفَس أن تغرس نخلة في الجنة قال
عليه الصلاة والسلام: من قال: سبحان الله وبحمده غُرست له نخلة في الجنة ( فمن غَفَل
عن نَفَسِه تَصَرَّمَت أوقاته وَعَظُمَ فواته واشتدت حسراته فكيف حاله إذا عَلِم
عند تحقق الفَوْت مقدار ما أضاع وطلب الرُّجْعَى فحيل بينه وبين الاسترجاع وطَلَب
تناول الفائت وكيف يُرَد الأمس في اليوم الجديد قال سبحانه:﴿ وَأَنَّى لَهُمُ
التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ﴾[سبأ/52] التناوش
هو: تناول ما فات، إدراك ما فات، هيهات هيهات، لقد ضاع وقت العمل ومُنع مما يحبه
ويرتضيه وحيل بينهم وبين ما يشتهون.
فيا حسراتٍ ما إلى ردِّ مِثْلها سبيلٌ
ولو رُدَّت لهان التَّحسُّر
هي الشهوات اللاء كانت تحوَّلَت إلى
حسراتٍ حين عَزَّ التَّصَبُّر
فلو أنــها رُدَّت بصـبر وقــــــــوة تحوَّلن لذَّاتٍ وذو اللُّبِّ يُبْصِر
يعني لو صبر
على شهوة في حرام لتحولت بعد الممات إلى لذات ولكن قلَّ التَّصَبُّر وقلَّت
المجاهدة فانساق وراء الشهوات، وكم من شهوةِ ساعة أورثت ذلا وحسرة لا تنقضي. يعني حين
الممات انتهت الشهوات وبَقِيَت الحسرات. ويقال إن أصعب الأحوال المنقطعة انقطاع
الأنفاس والمقصود أن الواردات سريعة الزوال تَمُرُّ أسرع من السحاب وينقضي الوقت
بمن فيه. أقول لإخواني: لو سألت أحد الجالسين وعنده من السن أربعون عاما لَلَخَّصَ
لنا الأربعين في عشر دقائق، أليس كذلك؟ فالواردات سريعة الزوال تَمُرُّ أسرع من
السحاب، فلا يعود عليك منه إلا الأثر، قال تعالى:﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا
أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾[الحاقة/24] الذين استفادوا من أوقاتهم وأعمارهم يُنادى عليهم اللهم حَقِّق
فينا هذا اللقاء يا رب العالمين:﴿ كُلُوا
وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾[الحاقة/24] ويُقال للأشقياء نعوذ بالله من الشقاء: ﴿ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ
فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ﴾[غافر/75].
أيها الأحبة
جميع المصالح تنشأ من الوقت قال ابن القيم رحمه الله: أَعْلَى الفكر وأجلها وأنفعها
ما كان لله والدار الآخرة، ومن جملة الفكر، الفكر في واجب الوقت ووظيفته وجمع الهم
كله عليه، فالعارف ابن وقته، فإن أضاعه ضاعت عليه مصالحه كلها، فجميع المصالح إنما
تنشأ من الوقت فمتى أضاع الوقت لم يستدركه أبدا.
النقطة
الثانية: الناكصون على أعقابهم: قال ابن الجوزي رحمه الله: ( رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعا عجيبا
إن طال الليل فبحديث لا ينفع أو بقراءة كتاب فيه سمر، وإن طال النهار فبالنوم، وهم
على أطراف النهار في الأسواق فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم.
فالله الله في مواسم العمر والبدار البدار قبل
الفوات واستشهدوا العلم واسْتَغِلُّوا الحكمة ونافسوا الزمان وناقشوا النفوس
واستظهروا بالزاد فكأن قد حدا الحادي فَلَمْ يَفْهَم صوته أو لم يُفْهَم صوته من
وقع الندم. يقول الشيخ: وأي دناءة للهمة أسفل مما نراه في عصرنا من شباب هذه الأمة
اللاهين الشاردين وراء كل ناعق وناعقة يُضَيِّعون الأوقات في المسارح وأمام
التلفاز وفي الملاهي أو دور السينما أو مشاهدة مباريات كرة القدم التي أصبحت عبادة
قَلَّ من ينجوا من أَسْرِها. هذه جملة عجيبة يقول فيها: إني لَأَعْجَبُ من حاضِرِ
أُمَّةٍ شبابها يجلس أمام التلفاز بثمان ساعات لمشاهدة كأس العالم في كرة القدم
وربما طال اللَّعِبُ للفجر ويجعلون قدوتهم رِجْلَ مارادونا هذا السكِّير المقامر
الذي يلبس طاقية الحاخام ويبكي أمام حائط المبكى قبل ذهابه إلى كأس العالم سنة
1990 و 1994، أَعَلَى هذا السكِّير تُنْفَقُ الأعمار! سبحان من حبس الناس عن
طاعتهم وجعل هذا السكِّير يَأْسِرهم بضياع عمرهم في لَعِبِهِ ومحبته هؤلاء ما
عاملوا مولاهم ولو بركعتين في ظلمات الليالي.
فالناكصون على أعقابهم من شباب الأمة أضعاف
أضعاف من اقْتَحَمَ الْعَقَبَة.
خذ من الألف واحدا ..... واترك الكل من بعده
رَجُلٌ بألْف وألْف بِخُف.
واعجبا تضيع
منك حبةٌ فتبكي وقد ضاع عمرك وأنت تضحك تستوفي مكيال هواك وتُطَفِّف في مكيال
صلاتك ألا بُعداً لِمَدْيَن غدا تُوَبَّخ وقْت عَرْض ألواح﴿ أَوَلَمْ
نُعَمِّرْكُمْ﴾[فاطر/37] بضاعتك أيام عمرك وبقية عمر المؤمن لا قيمة
له، يقول ابن رجب رحمه الله: السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات وتقرَّب
فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات فيَسْعَدَ
بها سعادة يَأْمَنُ بعدها من النار وما فيها من اللفحات. عن مجاهد-رحمه الله-قال:
ما من يوم إلا يقول: ابن آدم قد دَخَلْتُ عليك اليوم ولن أرجع إليك بعد اليوم،
فانظر ماذا تعمل فِيَّ.
ومن
الجمل الذي حفظتها لهؤلاء الأخيار، يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ( الليل
والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما ) وكما قال أحدهم وهذه جملة أيضا حفظتها لهم: ( يا
من يُضَيِّعُ يومه أسبوعه ويا من يهدم أسبوعه شهره ويا من يهدم شهره سنته وتهدم
سنته عمره ) يعني إذا انفرط يوم ضاع منك جزء من العمر، كما قال أحد الصالحين أيضا:
( أنت مجموع أيام، إن مَرَّ يوم مَرَّ بعضك ) وعن مالك بن دينار رحمه الله قال: (
كان عيسى عليه السلام يقول: إن هذا الليل والنهار خِزانتان فانظروا ماذا تضعون
فيهما ) وكان يقول: ( اعملوا الليل لما خُلِقَ له واعملوا النهار لما خُلِقَ له )
وعن الحسن رحمه الله قال: ( ما من يوم يَنْشَقُّ فجره إلا ويقول ابن آدم: أنا يوم
جديد وعلى عملك شهيد فاغتنمني فإني لن أعود إليك إلى يوم القيامة ) قال أحد
الصالحين:
مَضَى أمْسُكَ الماضي شهيدا مُعَدَّلا
وأعْقَبَهُ يوم عليك جديد
فيومك إنْ أغْنَيْتَهُ عاد نفعه عليك وماضي الأمس ليس يعود
فإن كنت بالأمس اقترفت إســـاءةً فَثَنِّ بإحسان وأنت حميد
فلا تُرجِ فعل الخير يومـا إلى غــــــــــــد لعل غدا يأتي وأنت فقيد
لا تُسَوِّف فمعظم صراخ أهل النار من كلمة سوف؛ أمِّنوا
يا إخواني:
اللهم أجرنا
من النار اللهم أجرنا من النار اللهم اجعل خير زماننا آخره وخير أعمالنا خواتيمها
وأسعد أيامنا يوم نلقاك يا رب العلمين.
قال ابن
الجوزي رحمه الله: ( ينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه وقدر وقته فلا يُضَيِّع منه
لحظة من غير قُرْبة ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل ) انتبه يا أخي ويا أختي
( ولتكن نيته في الخير قائمة ) فبحسن النية تدرك ما لا يستطيع الناس أن يعملوا،
كما قال أحد الصالحين: ( دلُّوني على عالم أريد أن أسأله سؤالا، قالوا: سل، قال:
أريد أن أكون عاملا لله طيلة حياتي، فَدَلُّوهُ على عالم، فأجابه قائلا: انوي
الخير فإنك ما زلت عاملا ما دمت ناويا ) يعني حتى التي لا تستطيع أن تدركه، ادْرِكْهُ
بِنِيَّتِك؛ تريد أن تكون في صف إخوانك في العراق ولا تستطيع، أدْرِكه بِنِيَّتِك،
تريد أن تكون في صف إخوانك في فلسطين تريد أن تُسفك دماءك على عتبات المسجد الأقصى
الأسير فأدْرِكه بِنِيَّتِك.
أمِّن يا أخي:
اللهم ارزقنا حسن النية والصدق في النية والإخلاص في النية واجعلنا ندرك ما يدركه
المجاهدون.
انتبهوا يا
إخواني إلى هذا الموقف الذي أثَّر فِيَّ كثيرا، نُقِلَ عن عامر بن عبد قيس، أن
رجلا قال له: كلِّمْني ( يعني عِظْني ) فقال: امسك الشمس. معناه أنك لا تستطيع أن
تمسك الزمن.
وقال ابن ثابت: ذهبتُ أُلَقِّنُ أبي، قال لأبيه:
يا أبي قل لا إله إلا الله فقال: يا بني دعني فإني في وردي السادس ورده من القرآن.
ودخلوا على بعض السلف عند موته وهو يصلي فقيل له: أتُصَلي وأنت في النَّزْع فقال:
الآن تُطْوى صحيفتي.
أمِّن يا أخي
على هذه الدعوة: يا رب في مجلسنا هذا مجلس الفقراء مجلس المساكين مجلس العبيد
الأذلاء صلي على خير الأنبياء محمد وارزقنا قبل لقاءك عملا صالحا تَقبِض عليه
أرواحنا وأنت راض عنا يا كريم. فيا سعادة من تُطْوى صحيفته وهو على طاعة ربه.
اللهم إنا نعوذ بك على أن نُؤْخذ على غِرَّة أو نموت على غفلة.
فإذا علم أن
الموت يقطع عليه العمل عَمِلَ في حياته ما يدوم له أجره بعد موته فإن كان له شيء
من الدنيا وقف وقفا ( يعني أرضا لله ) وغرس غرسا وأجرى نهرا ويسعى في تحصيل ذرية
تذكر الله بعده فيكون الأجر له أو أن يصنف كتابا من العلم فإن تصنيف العالم ولده
المخلَّد، وأن يكون عاملا عالما فيه فينقل من فعله ما يقتدي الغير به، قال عليه
الصلاة والسلام: ( سبع يجري للعبد أجرهن وهو في قبره بعد موته: من علَّم علما أو
أجرى نهرا أو حفر بئرا أو غرس نخلا أو بنى مسجدا أو ورَّث مصحفا أو ترك ولدا
يستغفر له بعد مماته ) حديث حسن. فهذا من علو الهمة في حفظ الوقت حتى بعد الممات.
يقول ابن
الجوزي رحمه الله: رأيت العادات قد غَلَبَت الناس في تضييع الزمان، وكان القدماء
يحذرون من ذلك قال الفضيل رحمه الله: أعرف من يُعَدُّ كلامه من الجمعة إلى الجمعة
( يعني لا يتكلم إلا قليلا ) كانوا قليل الكلام إلا في ذكر الله والنصح للمسلمين.
ودخلوا على
رجل من الصالحين فقالوا: لعلنا شغلناك قال: أصْدُقُكم؟ كنت أقرأ فتركت القراءة
لأجلكم. وسيأتيك بعد قليل عجائب فانتبه.
وكان داود رحمه
الله، انظروا يا إخواني إلى العجب، هؤلاء الأبرار، البَوْن بيننا وبينهم شاسع، البَوْن
بيني وبينهم، أنا أتكلم عن نفسي، عجيب أمر هذا الرجل يقول: بين سَفِّ الفَتِيت
وأكل الخبز قراءة خمسين آية. ما كان يمضغ الخبز. إخواني أستحلفكم بالله إذا عُرِض
على هذا الرجل حالنا مع الأفلام والراقصات والله يُصْرَع، أنا لما قرأت هذه
المقالة أقول ماذا لو اطلع هذا العابد على أحوالنا هذا الزمان! وقد ضاعت الأوقات
في النرد والشطرنج والدومينو والمخدرات والأفلام والمسرحيات والأغاني والسجائر
والمقاهي وهلم، والله يُصرع.
وأوصى بعض الصالحين
أصحابه فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه ومتى
اجتمعتم تحدثتم.
واعلم أن
الزمان أشرفُ من أن يضيع منه لحظة فإن في الصحيح من قال: سبحان الله وبحمده غُرِست
له نخلة في الجنة. يقول الشيخ: فكم يُضَيِّعُ الآدمي من ساعات يفُوته فيها الثواب
الجزيل.
إياك وقطاع الطريق: يقول الشيخ: مخالطة أهل الدنيا مضيِّعة للوقت، قاطعة
طريق الآخرة، فالواحد منهم قبرٌ يسعى إلى قبرٍ مثله، زَمِنٌ (مريض) يقوده زَمْنَى
مثله، فيا شَرِه هذا سمٌ والقُرب منه هلاك. سيأتيك متى تُستحبُّ الخُلطة فانتبه.
فإن ابتُليت به (الخُلطة) فأعْطِه ظاهرك وتَرَحَّل عنه بقلبك. يقول أحد الصالحين:
وشغلتُ عن فهم الحديث سوى ما كان
عنك فإنه شُغلي
وأديم نحو محدثي وجهي ليرى أن
قد عَقلتُ وعندكُمُ عقلي
ويقول آخر:
والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحُبُّكَ
مقرون بأنفاسي
ولا جلستُ إلى قوم أُحَدِّثُهم إلا وأنت حديثي بين جُلَّاسي
الخُلطة مضيعة للوقت: قال ابن القيم رحمه الله: فأما ما تُؤَثِّره كثرة الخُلطة
انتبه فامتلاء القلب من دخان أنفاس ابن آدم حتى يَسْوَدّ ويوجب له تشتتا وتفرقا
ويورِث هما وغما وضعفا وحمْلا لما يعجز عن حمله من مؤنة قرناء السوء وإضاعة مصالحه
والاشتغال عنها بهم وبأمورهم. هذا وكم جَلَبَت خُلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة
وأنْزلت من محنة وعطَّلت من منحة وأحلَّت من رَزِيَّة وأوْقعتْ في بَلِيَّة وهل
آفة الناس إلا الناس؟! انتبه أخي أختي، هل كان عَلَى أبي طالب عند الوفاة أضرّ من
قرناء السوء؟! قلها يا عم اشفع لك بها عند ربي، قال والله إني لأعلم أنك على الحق
ولكن أخشى أن يُعَيِّرَني الناس. لم يزالوا به حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة
تجلب له سعادة الأبد. ما هو الضابط في اختلاطنا مع الناس؟ انتبه الضابط النافع في
أمر الخُلطة أن يخالط الناس في الخير كالجمعة والجماعة والأعياد والحج وتَعَلُّم
العلم والجهاد والتضحية ويعتزلهم في الشر وفضول المباحات، وإن دعت الحاجة إلى خُلطتهم
في فضول المباحات فليجتهد أن يَقْلِب ذلك المجلس طاعة لله إن أمكنه. حَوِّل أنت المجلس
وأمْسكْ زمامه وأدخل عليهم عن طريق النعم. إذًا عندما أدخُل للناس أفرِض عليهم
ديني، لا غيبة، لا نميمة، لا سجائر، لا بانجو، لا فيلم، لا راقصة، الكل سيعمل
حسابه، لو خفت من الله لخاف منك كل شيء.
اللهم أحْسن
ختامنا، بدلا من مجلس الغيبة والنميمة تَحَوَّلَت إلى دعاء بسبب وجودك فاعتز بالله
أخي الحبيب أدخل البهجة والسرور على الناس بهذا الدين العظيم.
هذه هي ضوابط الخُلطة.
أما الزيارة وتضييع أوقات الناس فحرام وخصوصا لو زُرتَ داعيا من الدعاة حرام عليك
أن تُضَيِّعَ وقته، اذهب إليه للضرورة، إن استطعت أن تقابله في المسجد فلا تطرق
بابه، هو مشغول، عنده مذاكرة، وتحضير للدروس بالست ساعات لإلقاء درس، فلا تضيع
وقته، وإذا اتصلت به فلا تُثْقِل عليه. الله يحفظه الشيخ عمر عبد الكافي لما جاء
من سفر وتوضأ وصلى واستغرق في النوم اتصل به شخص فردَّت عليه زوجة الشيخ قال لها:
أريد أن أكلِّم الشيخ لضرروة فقالت له: الشيخ كان في محاضرة بعيدة وهو نائم الآن
فقال لها: أيقظيه هذا أمر لا يحتمل التأجيل، فأيْقظَت الشيخ من نومه ليُكلِّم
السائل على الهاتف، فقال للشيخ: يا شيخ أنا لا أستطيع النوم أعطني حلا لكي أنام!.
كما حدث معي أثناء ذهابي للمدرسة لكي آخذ أولادي بعد انتهاء المدرسة فإذا برجل
يقول لي عندي سؤال، فقال الشيخ: لو عندي علم سأجيبك وكان سؤلا في الحج فقص لي قصة
طويلة من أخذه للتأشيرة وما تَبِعَ من إجراءات، وأظهرت له بأني مستعجل لإحضار
أولادي من المدرسة فقلت له: ما سؤالك؟ والله يا إخواني سأل السؤال في دقيقة وأجبته
في دقيقة، فما هو الداعي لتضييع العمر ما الداعي لتضييع الآجال وتضييع مصالح الناس
حافظ على أوقات المسلمين يرحمك الله.
الخُلطة لها ضوابط: يقول الشيخ ابن الجوزي: نعوذ بالله من صحبة البطالين
لقد رأيت خلقا كثيرا يجرون معي فيما اعتاده الناس من كثرة الزيارة ويسمون ذلك
التردد خدمة ويطيلون الجلوس ويجرون فيه أحاديث الناس وما لا يغني يتخلله غيبة وهذا
شيء يفعله في زماننا كثير من الناس وربما طلبه المزور وتشوق واستوحش من الوحدة
وخصوصا في أيام التهاني والأعياد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق